مقالات رأي

عشرون دقيقة خلدت عبد الحليم ملكا للأغنية الرومانسية العربية

العندليب الأسمر في العاصمة الفرنسية باريس

بقلم نشمي عربي – واشنطن

الزمان يوم الأحد 18 أبريل/نيسان 1971, والمكان سينما ريفولي بالقاهرة, والمناسبة حفل “شم النسيم” السنوي، وجمهور العندليب موعود كالعادة مع أغنية جديدة، وحليم أيضاً كان موعوداً مع فترة حافلة في حياته، فكانت أغنية “موعود” من كلمات شاعره المفضل “محمد حمزة” وألحان (أمل مصر في الموسيقى كما كان يسميه حليم)، “بليغ حمدي”، ولكن حكاية أغنية “موعود” كانت قد بدأت في العام الذي سبق تقديمها.

كان عام 1970 قاسياً على عبد الحليم، فقد تعرض فيه لأول مرة لأكثر من نزيف في العام الواحد، كان “محمد حمزة” و “بليغ حمدي” قد وضعا اللمسات الأخيرة لأغنية “مداح القمر” وبدأ حليم بروفاتها عندما داهمه النزيف للمرة الثانية في أقل من عام، مما اضطره لتوقيف البروفات والسفر فوراً إلى لندن برحلة علاجية طويلة أنهكته تماماً. 

عند عودة عبد الحليم كان “محمد حمزة” قد انتهى من كتابة الجزء الأول من أغنية “موعود” وعندما سمعه حليم طلب من “حمزة” تتمة كتابة الأغنية والعمل على اللحن فوراً مع “بليغ” وأَجَّلَ بروفات “مداح القمر” وتفرغ تماماً ل (موعود)، التي قرر أنها ستكون أول أغنية يقدمها بعد عودته.

لفهم شخصية عبد الحليم لابد من إدراك أمر في غاية الأهمية، وهو أن الأغنية بالنسبة له أمر شديد التعقيد، يتجاوز بمراحل اختيار الكلمات واللحن المناسبين، الأغنية بالنسبة لحليم هي حالة إحساس قبل أي شيء آخر، ربما يكون مرجع ذلك إلى أنه يدرك أنه يغني بإحساسه أولاً وثانياً وثالثاً، ومن ثم تأتِ المَلَكات الفنية الأخرى، ولذلك كان ضرورياً أن أية أغنية يفكر بها، خصوصاً بعدما بدأ مشوار الأغنيات الطويلة في (زي الهوى)، لابد وأن يعيشها نصاً ولحناً وتوزيعاً، ولذلك أيضاً كان أمراً مهماً وحيوياً أن أغلب من كتبوا ولحنوا لحليم كانوا أصدقاء مقربين، مماساعدهم على أن يعيشوا عالمه ويقدموا له مايتناسب تماماً مع الحالة التي يعيشها، ينسحب ذلك أيضاً على العلاقة الشخصية والخاصة مع الفرقة الموسيقية التي أمضى أغلب مشواره الفني معها، وهي (الفرقة الماسية) بقيادة صديقه الأستاذ (أحمد فؤاد حسن)، كان حليم ذكياً لدرجة أن كل عضو من أعضاء الفرقة يشعر أن علاقته بحليم مميزة ومختلفة، فعرف حليم كيف يأخذ منهم أجمل وأروع ماقدموا، يظهر ذلك في (صولوهات) العزف المنفرد التي كان يحرص حليم على أن يعطيهم جميعاً فرصة الظهور والتميز من خلالها، ساعدته في ذلك المقدمات الموسيقية الطويلة لأغانيه في سنواته السبع الأخيره.

عندما يطلع حليم على خشبة المسرح فهو لايؤدي أغنية، بل يدير حالة فنية متكاملة، الكل شركاء فيها، تبدأ من أحاسيسه وخلجات نفسه، ولاتنتهي عند أبعد متفرج في آخر كرسي بآخر صف في المسرح، أو مستمع ومشاهد في أي مكان، ومن هنا كان حليم دوماً حريصاً على علاقة استثنائية مع كل شركائه في هذه الحاله الفنية المتكاملة، بما أعطاها بعداً إنسانياً مهماً، ليس فقط لأن ذلك يتسق تماماً مع طبيعته وشخصيته المتفردة، ولكن أيضاً لما يقدمه ذلك من أبعاد حيوية للحالة الفنية التي سيديرها هو كمايسترو حقيقي، في كل شيء.

عبد الحليم المتقد دوماً ذكاءً والفائض إحساساً أدرك بشعوره الذكي جداً بعد عودته من رحلة علاجه الطويلة أن (موعود) تعبر تماماً عن المرحلة التي كان يمر بها من كافة النواحي النفسية والصحية والعاطفية، أكثر بكثير من أغنية (مداح القمر)، رغم أن الأغنيتين من كلمات “محمد حمزة” وألحان “بليغ حمدي” اللذان كانا من أصدقاءه المقربين، مما أعطاهما القدرةً على قراءة كل مايعتمل في عقله وقلبه وإحساسه، وقد عبرت كلمات (موعود) بدقة متناهية عن تلك الفترة الحرجة في حياة حليم، فمن الناحية الصحية كان المرض قد أنهك جسده النحيل، وعلى الصعيد العاطفي كان لايزال يعيش إرهاصات وصول العلاقة مع السندريلا إلى خواتيمها التي كانت ظالمة بحق كل منهما، مع عدم وجود القدرة النفسية والصحية لديه على بداية علاقة جديدة، كان أمراً فريداً ومجحفاً أن العندليب الذي عَلَّمَ شباب جيله أبجديات الحب، والذي تفيض روحه وقلبه بأرق مشاعره، ليس قادراً صحياً أو عاطفياً على أن يترجم ذلك كله في حياته الشخصية، ولكن لأن حليم مُصِّر دوماً على النجاح، فقد عرف كيف يوظف ذلك كله في حالة فنية وإنسانية ووجدانية عبرت عنها كلمات “محمد حمزة” وألحان “بليغ حمدي” أيما تعبير في أغنية (موعود) التي أداها العندليب بإحساس قل نظيره.

وكأن “محمد حمزة” يدرك مدى حاجة حليم لهذه المراجعة الوجدانية مع قلبه المثخن بجراحات الحب، كما جسده المنهك بالأدوية، فيبدأ مطلع المقطع الأول: 
موعود موعود
موعود معايا بالعذاب موعود يا قلبي
موعود ودايما بالجراح موعود يا قلبي
ولا بتهدى ولا بترتاح فى يوم يا قلبي
وعمرك ما شفت معايا فرح
كل مرة ترجع المشوار بجرح
والنهارده جي تقول لي انسى الآهات
جي تقول لي يلا بينا الحب فات

ولكن لأن حمزة يعلم أن حليم لايستسلم بسهولة، فيعود في نهاية المقطع الأول لإعطاء فرصة ثانية للفرح والحب في حياته، فينهي المقطع الأول بمناشدة للحياة:
وأمانة يا دنيا أمانة 
تاخدينا للفرحة أمانة
وتخلي الحزن بعيد عنا
وتقولي للحب استنا استنا 

هذه المزاوجة بين ثنائية الحزن والفرح كانت دوماً أصيلة في شخصية عبد الحليم، ليس فقط لأنه من مواليد برج الجوزاء، وقد تجلت في كلمات (موعود) بشكل لافت.

مثل “محمد حمزة” فعل العبقري “بليغ حمدي” حينما اختار مقام (النهاوند) ليبدأ به الأغنية، وينهيها، ولتتمحور كل التنقلات النغمية فيها حوله، فالنهاوند من المقامات الموسيقية الشجية والتي تعبر عن مشاعر الحزن والفرح معاً، مع المحافظة على مسحة درامية أكيدة، وبعض التنويعات اللحنية في المراحل التالية للأغنية، والتي خرجت بشكل جميل عن (النهاوند) إلى كل من مقامات (الكرد والحجاز) عند زيادة جرعة الفرح، وإلى مقام (البيات) عند زيادة جرعة الحزن، مع عودة جميلة ورشيقة إلى (النهاوند) الذي حافظ عليه في البناء اللحني العام للأغنية وتجلى تماماً في المقطع الأخير. 

في الكوبليه الثاني، الذي سيصبح هو أيضاً لازمة تتكرر في الأغنية، تتابع رحلة الألم والحيرة، فتبدأ الكوبليه:
تاني تاني تاني 
حنروح للحب تاني
والنار والعذاب من تاني
وتاني تاني تاني
حنروح للحيرة تاني
ونضيع ونجري ورا الأماني
ويغيب القمر 
ونعيش السهر 
وآهات الألم فى ليالي الندم

ولكن لأن الأمل بالحب والفرح لايزال قائماً، فتنتهي الكوبليه على مقام (الكرد): 
وأمانة يا دنيا أمانة 
تاخذينا للفرحة أمانة
وتخلي الحزن بعيد عنا 
وتقوللي للحب استنا استنانا

المقطع الثالث يتابع مشوار المزاوجة في ثنائية الفرح والحزن، اللذان عبر عنهما بالجنة والنار: 
وابتدا ابتدا المشوار
وآه يا خوفي من آخر المشوار آه يا خوفي
جنة ولا نار آه يا عيني
رايح وأنا محتار آه يا خوفي
هنا يجاري بليغ مشوار كلمات حمزة بمشوار لحني ومقامي فيبدأ المقطع بمقام (الرصد) مع (وابتدى المشوار) مع تنقلات رشيقة ضمن الكوبليه نفسها بين مقامات (النوى أثر، والبيات، والصبا) وعودة محسوبة لمقام (الكرد) في نهاية الكوبلية التي لاتزال ملتزمة بخيار الحب والفرح: 
وأمانة يا دنيا أمانة 
تاخذينا للفرحة أمانة
وتخلي الحزن بعيد عنا 
وتقوللي للحب استنا استنانا

بعد هذا المشوار الحافل كان لابد من مواجهة صادقة وصريحة ومؤلمة، عبرت عنها كلمات “محمد حمزة” وألحان “بليغ” وتوزيع “أحمد فؤاد حسن” الرائع، بأداء خرافي من عبد الحليم للمقطع الأخير من الأغنية، والتي كانت أشبه بجلسة تصفية حساب مع قلبه، والدنيا:
شوف بقينا فين يا قلبي
وهي راحت فين
شوف خدتنا لفين يا قلبي 
وشوف سابتنا فين
التزم بليغ هنا بمقام الأغنية الأصلي (النهاوند) مع مسحة حزن عميقة، ثم ينتقل بتصاعد لحني معبر عن حالة التوتر المتصاعدة مع مقام (الكرد) عندما يقول: 
فى سكة زمان راجعين فى سكة زمان
فى نفس المكان ضايعين فى نفس المكان
لا جراحنا بتهدا يا قلبي
ولا ننسى اللى كان يا قلبي شوف
ثم يزداد التصاعد اللحني مع ازدياد حالة التوتر:
بتصحي الطريق خطاوينا وأنين السنين
والسما بتبكي علينا والناي الحزين
ليتم الوصلة على قفلة متناهية الحزن عندما يصل لكلمتي (الناي الحزين) ليتدخل هنا ناي (محمود عفت) بسحبة على الناي من مقام (الصبا) هي غاية في التعبير الدرامي. 
وكأن التوتر لم يصل لحده الأقصى بعد، فيعود مرة ثانية مع جملة: 
حتى نجوم ليالينا والقمر غايبين 
مع هبوط متتابع في تكرار: 
غايبين 
غايبين 
غايبين 
ليعود مرة أخرى للحزن والألم في مقام (النهاوند) مع ترديده لمقطع: 
وتاني تاني تاني 
راجعين أنا وانت تاني
للنار والعذاب من تاني
وتاني تاني تاني 
راجعين للحيرة تاني
هايمين بنجري ورا الأماني
عبد الحليم الذي اعتاد أن يكون كريماً جداً مع الجمهور في إعادة الوصلات لمرات ومرات، أعاد تكرار المقطع هنا بشكل لافت جداً ولكنني أكاد أجزم أنه لم يفعلها هنا فقط لتلبية طلب الجمهور الذي أعتقد أن عبد الحليم في اندماجه الشديد في هذا المقطع المفعم بإحساساته قد انفصل تماماً عن كل العالم المحيط به، ودخل في مرحلة استمتاع بالألم والحزن هي أقرب إلى (المازوخية) التي جعلته يعيد المقطع مرات ومرات، وكأنه يريد لجرعة الحزن والألم أن تصل لمداها الأقصى، لتنتهي معه في حالة: 
ويغيب القمر ونعيش السهر 
وآهات الألم و ليالي الندم
ويختم الأغنية بعودة للمذهب الأصلي والمقام اللحني الأصلي ولكن مع تغيير كلماته، لتصبح: 
وأمانة يا دنيا أمانة 
تداوينا من جرح هوانا
وتخلي الحب بعيد عنا 
ولا نستناه ولا يستنانا
أمانة
وكأن عبد الحليم نفض يده تماماً من الحب والفرح واستسلم تماماً لحالة نيرفانا مع آلامه وأحزانه، في مقطع أخد منه عشرين دقيقة كامله، كان من الممكن تأديته في ثمان دقائق. 

هذه العشرون دقيقة (والتي تبدأ في الرابط المرفق مع الدقيقة 1:02:45) والتي أداها عبد الحليم بمنتهى الإحساس، خلدته ملكاً على عرش الأغنية الرومانسية العربية، أمس، واليوم، وغداً، وإلى الأبد. 

فرانس بالعربي